قراءة تاريخية في ذكرى مرور 500 سنة على معركة مرج دابق
كنت قد كتبت في الفصل الأول من هذا المقال مشهد معركة مرج دابق 24 آب 1516 الذي يصادف مرور 500 عام عليه، وهو يوم بالغ الأهمية وقد كرس شتاتنا وشرادنا، وأدخلنا في مشهد من الثأر والثأر المضاد منذ خمسمئة عام.
والأحداث التي نرويها هنا هي محض قراءة من الماضي على الرغم من التشابه الشديد بالواقع، وهو ما يعني أننا نكاد ندور في حلقة مفرغة من الكارثة ولم نبدأ بعد درب الخلاص.
كان انتصار السلطان سليم على الصفويين في معركة جالديران 1514 حدثاً بالغ الأهمية ولكنه في الواقع لم يخرج من إطاره العسكري الحربي ولم ينجز شيئاً نحو نزع فتيل الكراهية، واستمر الصفويون في مشروعهم بعد أن جلله ركام من الحقد والثار.
أما الشارع الشامي فقد كان ساخطاً من سلوك حكامه #المماليك، ولم ير فيهم إلا متواطئين على إذلاله وإفقاره، خاصة أن الجيش المملوكي الرسمي كانت تغلب عليه قيادات طائفية لا تضمر الخير للغالبية السنية في #سوريا، وتتنافس في كسب ود الدولة الصفوية بوصفها الحامي الرسمي للمشروع الشيعي والقوة القادرة على وضع حد للطموح العثماني.
وفي مقابل ذلك توالت القيادات السنية في سوريا في التواصل مع العثمانيين بوصفهم مشروع الخلافة الجديد، ووصل الى استانبول كثير من زعماء الشام وحلب ووجهائها، أما والي عنتاب فقد أعلن رسميا انشقاقه عن الحكم المملوكي في الشام ولحق بالعثمانيين.
وهكذا أصبح المشهد واضحاً في بلاد الشام فالصفويون لهم مشروعهم والعثمانيون لهم مشروعهم، وقد بطش العثمانيون بالصفويين في معركة جالديران واجتاحوا عاصمتهم تبريز ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على المشروع الصفوي وأطلقت إيران حشداً شعبياً هائلاً من #بغداد ور#الكوفة و #النجف لقتال النواصب وارتكب الجميع أبشع أشكال العنف الطائفي.
كان أمام قانصوه الغوري الحاكم المملوكي أن يختار، فلم يعد بالإمكان أن يزعم صداقة الطرفين، وكان السفراء لا يتوقفون عن التوافد إليه من العثمانيين ومن الصفويين، وفي النهاية خضع قانصوه الغوري لضغط العسكر الشامي الذي كان في غالبه من مسلحي #الشيعة الذين حشدهم والي حمص جان بردى الغزالي وكذلك حاكما صفد والشوف، فيما كانت تسميه إيران الصفوية الحلف المقاوم للدفاع عن الأقصى والحرمين، وأصبح هناك جيش يزيد عن عشرين ألف مقاتل يتلقون تسليحاً مباشراً من إيران وكلهم على أتم الاستعداد لقتال العثمانيين ومنع وصولهم إلى الداخل السوري.
ونظراً لخطورة الموقف فقد خرج السلطان المملوكي نفسه من مصر إلى الشام وعين مكانه طومان باي وكانت الحشود الشيعية المتتالية تتآزر في دربه وطريقه لقتال العثمانيين في الشمال الحلبي.
كانت قراءة السلطان في الواقع قاصرة وساذجة وبهره بريق السيوف في يد العسكر من حلفاء الصفويين ولم ينتبه إلى حجم الغضب الهادر الذي كان يلف بلاد الشام من استهتار حكامه وعجزهم وانجرافهم في سياق الحشد الطائفي، فقد كانت الغالبية من الشعب لا تؤمن بهذا النزاع الطائفي وكانت ترى أن مشروع الحلف المقاوم كذبة تريد بها إيران الصفوية التسلط على بلاد الشام وخاصة فلسطين ولبنان، وخلال أشهر ارتفعت الأصوات المطالبة بوقف التدخل الإيراني الصفوي ووقف الحرب ضد العثمانيين، ولكن السلطان مضى إلى النهاية المحتومة محاطاً بجنده الذين تلقوا دعماً صفوياً وفيهم كثرة غالبة من العلوية البكتاشية من كيليكيا واسكندرون واللاذقية والشيعة في الجنوب اللبناني، إلى أن وصل إلى مرج دابق مطلع شهر آب 1516.
كان المشهد في غاية الرعب والقلق، وكان الشقاق جلياً وواضحاً بين القادة العسكريين وبين الجند، وحين اندلع القتال في 24 آب انشق الجيش مباشرة نصفين وأعلن خاير بك والي حلب انشقاقه إلى الجانب العثماني وتبعه القاضي يونس، ودار لغط كبير حول دور والي حمص جان بردى، فيما ثبت السلطان قانصوه ومعه والي دمشق سيبتاي وكذلك القادة العسكريون الذين كانوا يراهنون على تدخل صفوي إنقاذي، ولكن الحرب جرت في غير ما توقعوه وانتصر السلطان سليم انتصاراً ساحقا وقتل قانصوه الغوري ولم يعرف له جثة ولا قبر ودخل السلطان العثماني إلى حلب وحماه والشام دون مقاومة تذكر.
وبعد خمسة أشهر يناير 1517 كانت الدولة المملوكية تلفظ أنفاسها الأخيرة في معركة الريدانية التي فتحت أبواب مصر أمام العثمانيين وأنهت الدولة المملوكية إلى الأبد.
ليست غايتي سرد التفاصيل التاريخية ولكنني أشعر بأسى أننا نروي التاريخ مبتهجين بانتصارات سنابك الخيل دون أن نفكر فيما تتركه تلك الحروب على الأجيال الآتية، وقناعتي أن الأمر الأكثر خطورة أن هذه الحروب لم تكن لتنهي شيئاً من المعاناة وكانت تنتهي عادة بالثأر والانتقام والجرح الغائرة ويهرب الممتنعون إلى الجبال ينتظرون ظروفاً أخرى للانقضاض على الجماعة من جديد.
إنها تقريباً القصة المتكررة في التاريخ الاسلامي منذ أن كانت خلافاً عائلياً بين أمية وعبد مناف إلى أن صارت نزاعاً هاشمياً أموياً، انتهى بنصر العباسي على الأموي ونبش قبورهم واستئصال شأفتهم، ولكن ذلك لم ينفع في نهاية المأساة حيث استمرت القلوب تبيت على الضغائن، وبعد قرن من الحكم العباسي القوي يحكم البويهيون قرناً كاملاً يمارسون اضطهادا منظما ضد السنة، ثم يحكم السلاجقة قرناً كاملاً يمارسون اضطهاداً منظماً ضد الشيعة، ثم تقوم الدولة الفاطمية في الشمال الافريقي وتمتد إلى مصر والشام وتبلغ العراق نفسه بوقود طائفي غضب يبطش به في النهاية صلاح الدين الأيوبي، ليبدأ عصر سني أيوبي ثم مملوكي ليظهر من جديد المشروع الصفوي في إيران ويمتد الى العراق ويهدد بلاد الشام.
مع قيام الثورة الإيرانية تعود المشاعر الطائفية من جديد على أشدها، وتنفجر الحرب العراقية الإيرانية ثم تنجلي عن انهيار كامل في #العراق يطلق ألوية طائفية دموية تقاتل ضد ما تصفه بأنه النواصب، ويظهر في مقابل المشرع الشيعي مشروع ناصبي متطرف تقوده القاعدة ثم #داعش يحمل فتاوى تكفير الروافض ويجعلها قبلة جهاده وغاية تضحياته.
تبدو المسالة قصة كراهية متراكمة لا تزداد مع الأيام إلا جاهلية وعنفاً.
المسألة في رأيي هي أن السلاح أعمى وأن الحسم العسكري لا يأتي بأي خير، وأن المنتصرين دائما كانوا يمارسون غرائزهم ولا يقضون على أسباب الشقاق.
قناعتي أنه كان على حكماء الإسلام معالجة هذه الجروح التاريخية الغائرة، كان عليهم أن يخرجوا إلى جبالهم ومعاقلهم ويعيدوا بناء الأخوة والمواطنة على قدم من المساواة والإخاء، وأن يتعلموا درس الأمم الخالية، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنه ما من حسابك عليهم من شيء، وما من حسابهم عليك من شيء، وأنها أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبت ولا تسئلون عما كانوا يعملون.
ما حصل تاريخياً في الحروب الصفوية العثمانية كان عكس ذلك تماماً، وكان انكفاء المغلوب يلازمه بطش الغالب وتحقيره وتسفيهه، وتداول الفتاوى المقيتة التي تكرس الكراهية والحقد عبر الأجيال انتقاماً من الماضي ووعيداً بالمستقبل.
ولو أوتي المنتصرون الحكمة والبصيرة لأدركوا أنه ما من تمرد إلا وفيه سبب من ضمير، وما من تضحية إلا ولها قناعاتها التي حملت باذليها على زهق أرواحهم في سبيلها، صواباً أو خطأ، وكان على المنتصر احترام بسالة خصومه وتقدير شجاعتهم ومنحهم الفرصة للعيش الكريم، على قاعدة الرسول الكريم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
لم يحصل في تاريخ النزاع المذهبي شيء من ذلك، لقد كان المنتصر دوماً ينكل بالمهزوم، ويمارس بعد النصر أبشع أشكال الانتقام فتنام القلوب غائرة على الكراهية والحقد تنتظر الفرصة للثأر المتبادل والثورة المضادة.
العباسيون نكلوا بكل أثر أموي وقتلوا أطفالهم ونساءهم وصبيانهم ونبشوا قبورهم، وحين أعلن الصفويون دولتهم في إيران قتلوا عشرات الآلاف من السنة المتمردين عليهم وفي الوقت نفسه فإن السلطان سليم قتل أربعين ألفاً من الشيعة في جنوب #تركيا لأنهم جواسيس محتملون للصفويين، وذلك وفق المصادر الرسمية للدولة العلية العثمانية، وحين انتصر في مرج دابق كان على جبال الساحل والشوف وجبل عامل أن تواجه حملات متتالية من العثمانيين لاضطهادهم والانتقام منهم بعد وقوفهم إلى جانب المشروع الصفوي الإيراني، وخلال مائة عام هاجرت آلاف العوائل اللبنانية من جبل عامل إلى إيران وقامت بدور مركزي في نشر التشيع على أساس من الإعداد لليوم الفاصل وللمعركة القادمة المرتقبة مع النواصب.
من المؤسف أن نكون في هذا القرن الحادي والعشرين نكرر المآسي إياها التي مارسها آباؤنا وأجدادنا في سياق البغي والانقلاب والأحقاد المتوارثة دون أن نتعلم من درس التاريخ شيئاً.
أما القرآن الكريم فقد حسم ذلك كله بنص تكرر مرتين في صفحة واحدة: “تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون”.
ربما كان الاستثناء الوحيد من هذا التاريخ الأسود في نظري هو الدور الحكيم الذي قام به تحديداً الخليفة العباسي الناصر لدين الله والذي حافظ فيه على إخاء سني شيعي استمر نحو ثلاثمائة عام، حيث أعلن مع توليه الخلافة عام 575 هجرية 1180 ميلادية أنه يعترف بالطائفتين الكريمتين السنة والشيعة وبكل شعائرهما وطقوسهما ومراقدهما وكان يقوم بنفسه ببناء الحسينيات والمراقد ومنح تربة الامام الكاظم عصمة للائذين به، كما بنى عدداً من مساجد الحنابلة ببغداد وأعلن أن لا يفرق بين سني وشيعي حتى اختار الناس فيه أكان سنياً أم شيعياً ولكنه على كل حال حقق أكبر نجاح في الإخاء الوطني ونجح في توفير ثلاثمائة عام قادمة لم يسمع فيها بأي صراع حقيقي بين السنة والشيعة.
_files/dab.jpg)